كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
من عجائب القدرة الإلهية أن يجعل الله بعض البشر تجتمع فيهم خصال القيادة والريادة، إما في الخير كما قال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً)(النحل:120)، وكما قال: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)(الأنبياء:73)، وفي المقابل قال: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)(القصص:41).
ومن معاني قوله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً)
أنه اجتمعت فيها خصال أمة التوحيد كلها، وهذا ينطبق في الجانب العكسي على
عدد من الطواغيت عبر التاريخ من الذين اجتمعت فيهم خصال الشر من الطغيان
والمكر والحيلة، ويأتي على رأس هؤلاء أبو جهل؛ ذلك الرجل الذي قدر الله
وجوده معادياً للإسلام وأهله؛ لتكون سيرته الخبيثة ميدان يتعلم منه أهل
التوحيد عبر العصور كيف يتعاملون مع طواغيت عصرهم.
ومن
الأمور المعلومة أن أبا جهل كان يكنى في الجاهلية "أبا الحكم" لما أعطي من
رجاحة عقل أهلته لكي يكون سيد بني مخزوم، بل وأحد أبرز سادات قريش، وعامة
الطواغيت يكون عندهم بعض المؤهلات التي يستثمرها الشيطان وينفخ فيهم حتى
يتألهوا ويتجبروا ويتكبروا، ويعادوا دين الله ورسل الله من أجل أنفسهم،
ولكنهم نادراً ما يصرحون بأنهم يعملون من أجل أنفسهم، وأنفسهم فقط.
بل لابد من تعبئة عامة حتى الفرعون الذي كان يقول: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)(النازعـات:24)، لما واجه موسى -عليه السلام- قال: (إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ . وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ . وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ)(الشعراء:54-56)، فانظر إلى هذه اللهجة الجماعية التي لا تناسب المتألهين ولا حتى الاستبداديين، ولا تكاد تصدر إلا من قائد متواضع خفيض الجناح.
وهكذا
كان أبو جهل الذي استطاع أن يخفي دوافعه الحقيقية في عداء النبي -صلى الله
عليه وسلم-، وهو أنه يريد أن يفوت الشرف على بني عبد مناف حتى لا يشرفوا
بالنبوة على بني مخزوم.
واستطاع
أن يصور المعركة على أنها معركة قريش بأسرها ضد من يريد تبديل دينها مما
يعني أن بني عبد مناف، بل وبني هاشم عليهم أن يعادوا محمداً -صلى الله
عليه وسلم- رغم وجود تيار قوي كان يود أن تخلي قريش بين النبي -صلى الله
عليه وسلم- وبين العرب، فإما أن يكفوهم إياه، وإما أن يظهر عليهم فيكون
شرفاً لهم، ولكن استطاع أبو جهل أن يحتكر مركز صناعة القرار، وأن يأخذ
بزمام المبادرة الإعلامية وأن يقود فرض العقوبات الاقتصادية والمقاطعة
والحصار.
لقد
كان أبو جهل يمثل بمفرده أعمال ضخمة تقوم بها الآن مؤسسات ضخمة، وكان يقوم
بعمله على أتم ما يكون من الشر والفساد، ولقد استطاع أبو جهل أن يحيد بني
هاشم وأن يُلجئ معظمهم إلى أن يخجلوا من اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-
مع أنهم بحكم القرابة والمخالطة كانوا من أكثر الناس يقيناً أن محمداً
-صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أن يكذب على أحد من الناس فكيف يكذب على
الله؟!!
كيف
لا والمخالطة وحدها كانت كفيلة بأن يصل أبو بكر -رضي الله عنه- إلى أن
يكون صديق الأمة الأول؟!! كما أنهم في ذات الوقت لم يكونوا يرضون بأن يلحق
النبي -صلى الله عليه وسلم- أذى حمية وعصبية، ولم يشذ عن قاعدة الحياد هذه
إلا نفر قليل، فمنهم من صار معادياً ينافس أبا جهل في عداوته كأبي لهب
-لعنهما الله لعناً كبيراً-، ومنهم من رزقه الله همة عالية غالب بها الحرب
النفسية لأبي جهل وأبي لهب.
يأتي
على رأس هؤلاء جعفر وعلي ابنا أبي طالب، فأما الأول فصار قائداً لإحدى
الجماعتين المؤمنتين على وجه الأرض حيث كان قائداً للمسلمين في الحبشة،
بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقود عامة المسلمين في مكة، وأما
الثاني فظل ملازماً للنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى فداه بنفسه في الهجرة
ونام على فراشه، ثم لحق به وتزوج ابنته فاطمة، ثم صار رابع الخلفاء
الراشدين -رضي الله عنه وأرضاه-، ويأتي أيضاً حمزة بن عبد المطلب -رضي
الله عنه- عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولإسلامه
قصة هي بيت القصيد في مقالنا هذا، ذلك أن حمزة -رضي الله عنه- ليس رجلاً
من قريش كسائر رجالها ولا حتى كسائر بني هاشم معرفة برسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، بل كان مع ذلك تربه في السن وأخاه في الرضاعة، عايش معه صباه
وشبابه ولذلك فلديه نفس المقومات التي كانت لأبي بكر وعلي -رضي الله
عنهما- من المعرفة التامة برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن لحكمة
يعلمها الله أراد الله أن يكون كمعظم بني هاشم لا يود أن يترك دين آبائه،
وفي ذات الوقت لا يرضى أن يصيب محمداً -صلى الله عليه وسلم- أذى.