مقدمة وإهداء
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفي ثم أما بعد
أخي الحبيب : حفظك الله وأبقاك وأمتع بك ، وجعل ما بيني وبينك من ود موصولا أبد الدهر ، فقد عرفتك صديقا لا يشوب صداقته زيف من شوائب الدنيا ، وعرفتك على تقادم العهود وتطاول الزمان أخًا ثابتا الإخاء وثيق النفس ، ليس كمن يدور بِخُلَّتِهِ بين الناس ملتمسا بها الغُنْم وباغيا بها النفع ، فكان ذلك – أيدك الله – مما أكبرك في عيني ، وأعظمك في نفسي ، وبسطني أن أقدم لك هذا البحث ولتعلم أيها السَّمِيّ الكريم أني أحفظ لك في نفسي مثل ما تحفظ لي من وفاء ، وأطوي لك صدري على مثل ما تطوي من ولاء " " .
بين يديك أخي الآن بحث شيق في مسألة شائكة كثير النزاع والاختلاف حولها - واعلم أن هذا الاختلاف من مميزات مرونة الفقه الإسلامي ، ومن أهم مميزاته لأنه معطاء لا جدب ولا معقد بل واسع يسمع لكل الآراء ويناقشها بسعة صدر وموضوعية علمية .
ولقد قال بعض الدعاة : إن هذا الأمر فتنة لكي يطلع الله على ما في القلوب من ميل إلى الشهوات أو البعد عن الشبهات فلقد كان يمكن أن يقطع الله عز وجل الأمر بالحل أو الحرمة ولكنها فتنة لكل مكلف شاء أم أبى فليختر لنفسه العاقل ما فيه سلامته ونجاته عند العرض الأكبر ، والموعد الله للفصل بين العباد وكل امرئ حسيب نفسه .
واعلم أن الحجة القوية لأهل العلم الفضلاء المخلصين الذين لا يألون جهدا في نصح الأمة والذب عن أعراضها وبيان الحق للناس لا يزالون قائمين بأمر الله إلى قيام الساعة ، فإليك هذا البحث الذي يدعوك من قريب أو من بعيد إلى أن تحرص على العلم النافع في كل المجالات وألا تقلد في دينك أحدا بل تخضع للدليل والحجة الإلهية والله الموفق .
وأخيرا ( اقرأها وأعطها لغيرك ولا تكتم العلم فتأثم ، ولا تنس الدعاء
لمن أهداها إليك ولمن كتبها )
حكم الغناء
آراء العلماء في الغناء : -
اختلف العلماء في حكم الغناء على ثلاثة أقوال : -
الأول : ذهب الحنفية في قول " " والحنابلة في رواية " " إلى تحريم الغناء مطلقا - كان مجردا عن الآلة أو معها وأن الاستماع إليها معصية .
الثاني : وذهب إليه بعض الحنفية " " والمالكية " " والشافعية " " وهو اختيار القاضي من الحنابلة " " وأكثر البصريين " " إلى أن الغناء إن وقع بمجرد صوت الإنسان من غير أن يصاحبه آلة فهو مكروه وسماعه مكروه كذلك إن قصد فإن لم يقصد السماع لم يكره " " وإن صاحبه آلة لهوٍ كان فعلا وسماعا مع اختلاف بينهم في بعض الآلات :
فالحنفية : يرون أن الملاهي كلها محرمة وفي الدف خلاف فقيل مباح مطلقا في العرس وغيره وقيل لا يجوز في غير النكاح ، وقيل يكره مطلقا " ".
أما المالكية : فالملاهي كلها محرمة ما عدا الدف المدور والكبر في العرس والوليمة ويكون ذلك عند النساء دون الرجال " " .
أما الشافعية : فما كان من الآلات من شعار شاربي الخمر وهو مطرب كالطنبور والعود فإنه يحرم استعماله واستماعه : وفي اليراع – الزمارة التي ليس لها بوق كالصفارة ونحوها وجهان بالحل والحرمة والأصح التحريم ، وأما الدف فمباح في العرس والختان ، وفي غيرها خلاف لأصح الحل ، وأما الطبولة فضربها مباح إلا الكوبة وهي طبل طويل ضيق الوسط واسع الطرفين أو أحدهما " ".
أما الحنابلة : فالملاهي عندهم على ثلاثة أضرب : محرم وهو ضرب الأوتار والنايات والمزامير كلها والعود والطنبور والرباب ، وضرب مباح وهو الدف في النكاح وفي غيره وجهان ، أرجحهما الحل ، ويكره للرجال مطلقا . وضرب مكروه وهو القضيب وقيل القصبة إذا انضم إليه محرم كالتصفيق والغناء والرقص وإلا لم يكره ؛ لأنه ليس بآلة طرب " ".
وأما الزيدية : فالملاهي حرام كلها الطنبور والبربط والمزمار والمعازف والرباب ولا يحل إلا الطبل " "
* * * ( اقرأها وأعطها لغيرك ولا تكتم العلم فتأثم ، ولا تنس الدعاء
لمن أهداها إليك ولمن كتبها )
القول الثالث : وذهب إليه الخلال وأبو بكر عبد العزيز من الحنابلة " " وهو قول سعد بن إبراهيم والعنبري وكثير من أهل المدينة " " وقال به الغزالي من الشافعية " " وهو قول الظاهرية " " ومروي عن كثير من الصحابة والتابعين " " أن الغناء مباح مطلقا فعلا وسماعا ولا كراهة فيه :
الأدلــــة :
استدل كل فريق لما ذهب إليه بأدلة كثيرة نوضحها على النحو التالي :
أدلة القائلين بالحرمة :
للقائلين بالحرمة أدلة كثيرة من القرآن والسنة :
أولا أدلتهم من القرآن : استدلوا من القرآن بما يلي :
1 – قال تعالى : ) ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ( لقمان 6 .
قال العلماء لهو الحديث في الآية هو الغناء ، ذهب إلى ذلك ابن مسعود ، وحلف على ذلك بالله الذي لا إله إلا هو – يرددها ثلاثا – وهو مروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والنخعي ، كما روي عن ابن عمر وعكرمة ومكحول " " إذا أثبت أن لهو الحديث هو الغناء كان الغناء حراما ؛ لأن الله توعد من يفعل ذلك بالعذاب المهين ، ولا يتوعد إلا على فعل معصية .
ويناقش هذا الاستدلال من أوجه :
الأول : أن لهو الحديث في الآية مختلف فيه فمن العلماء من قال : المراد به الكفر والشرك ، ومنهم من قال : إن المراد به الأحاديث التي يتلهى بها أهل الباطل واللعب كما فعل النضر بن الحارث عندما اشترى كتب الأعاجم رستم واستفنديار وكان يجلس بمكة فإذا قالت قريش : إن محمدا قال كذا ضحك منه وحدثهم بأحاديث ملوك الفرس ، وكان ذلك سببا في نزول الآية " " فإذا ثبت أن لهو الحديث في الآية يحتمل كل هذه المعاني لم يكن في الآية دليل على التحريم ؛ لأن حمله على الغناء ليس بأولى من حمله على تلك الأمور .
الثاني : أن نص الآية يبطل الاحتجاج بها على تحريم الغناء ؛ لأن فيها " ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا " وهذه صفة من فعلها كان كافرا بلا خلاف ، ولو أن امرئ اشترى مصحفا ليضل به عن سبيل الله ويتخذها هزوا لكان كافرا ، فهذا هو الذي ذمّه الله ، وما ذم قط من اشترى لهو الحديث ليتلهى به ويروِّح عن نفسه لا ليضل عن سبيل الله " " .
الثالث : أن ما روي عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من تفسير اللهو بالغناء لا حجة فيه ؛ لأنه لا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنه قد خالفهم غيرهم من الصحابة والتابعين " " .
* * * ( اقرأها وأعطها لغيرك ولا تكتم العلم فتأثم ، ولا تنس الدعاء
لمن أهداها إليك ولمن كتبها )
2 – كما استدلوا لتحريم الغناء بقوله تعالى في سورة النجم ) وأنتم سامدون ( آية 61 .
وروي عن ابن عباس قال : هو الغناء وهو كلمة يمانية . اسمد لنا أي غنِّ لنا ، فكانوا إذا سمعوا القرآن يتلى تغنوا ولعبوا حتى لا يسمعوا ، والسمود اللهو ، والسامد اللاهي ، يقال : للقينة : أسمدينا أي الهينا بالغناء " " فكان اللهو بالغناء محرما بهذه الآية حيث ذم الله سبحانه مَن هذه صفته .
ويجاب عن هذا الاستدلال :
بأنه قد ورد عن ابن عباس أيضا أن سامدون بمعنى لاهون معرضون " " كما روي عن الضحاك أن " سامدون " بمعنى شامخون متكبرون .
وفي الصحاح " " سمد سمودا رفع رأسه تكبرا وكل رافع رأسه فهو سامد . إذا ثبت هذا لم يكن في الآية دلالة على تحريم الغناء ؛ لأن الذي ذمه الله هو من يعرض عن القرآن والإيمان به تكبرا وعنادا .
3 – كما استدلوا على تحريم الغناء أيضا بقوله تعالى : ) والذين لا يشهدون الزور ( سورة الفرقان 72 .
روي عن ابن الحنفية أنه قال : هو الغناء ، وكذلك قال مجاهد " " إذا ثبت هذا كان الغناء واللهو به حراما ؛ لأنه مأمور باجتنابه والمنهي عنه حرام .