وقد عرض ابن القيم رحمه الله في كتابه " إغاثة اللهفان " نماذج من الغلو والجفاء , والتفريط والإفراط ، يتبين لنا باستعراض بعضها وسطية الإسلام ، بل وسطية أهل السنة والجماعة وسلف الأمة ، بين بقية الفرق المنحرفة عن الصراط المستقيم .
الوسطية في الطهارة :
قال رحمه الله : " فقوم قصّر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة !
وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحد بالوسواس !
الوسطية في الإنفاق :
وقوم قصّر بهم عن إخراج الواجب من المال !
وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما في أيديهم ، وقعدوا كلاّ على الناس , مستشرفين إلى ما بأيديهم !
الوسطية في الطعام والشراب :
وقوم قصّر بهم عن تناول ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس ، حتى أضروا بأبدانهم وقلوبهم !
وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة ، فأضروا بقلوبهم وأبدانهم !
الوسطية في الأنبياء :
وكذلك قصّر بقوم في حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم !
وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم !
الوسطية في مخالطة الناس :
وقصّر بقوم في خلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات , كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلم العلم !
وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام !
الوسطية في الدماء :
وقصّر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفور أو شاة ليأكله !
وتجاوز بآخرين حتى جرأهم على الدماء المعصومة !
الوسطية في طلب العلم :
وكذلك قصّر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم !
وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به !
الوسطية في طلب المعاش :
وقصّر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية , دون غذاء بني آدم !
وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص !
الوسطية في النكاح :
وقصر بقوم حتى زين لهم ترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من النكاح فرغبوا عنه بالكلية !
وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام !
الوسطية في توقير المشايخ :
وقصّر بقوم حتى جفوا الشيوخ من أهل الدين والصلاح , وأعرضوا عنهم , ولم يقوموا بحقهم !
وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى !
الوسطية في أقوال الرجال :
وكذلك قصّر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم والالتفات إليها بالكلية !
وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه والحرام ما حرموه , وقدموا أقوالهم على سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الصحيحة الصريحة !
الوسطية في أفعال الله تعالى :
وقصّر بقوم حتى قالوا : إن الله سبحانه لا يقدر على أفعال عباده ولا شاءها منهم , ولكنهم يعملونها بدون مشيئة الله تعالى وقدرته !
وتجاوز بآخرين حتى قالوا : إنهم لا يفعلون شيئا البتة , وإنما الله سبحانه هو فاعل تلك الأفعال حقيقة ! فهي نفس فعله لا أفعالهم ، والعبيد ليس لهم قدرة ، ولا فعل ألبتة !
الوسطية في إثبات صفة الفوقية لله رب العالمين :
وقصّر بقوم حتى قالوا : إن رب العالمين ليس داخلا في خلقه ولا بائنا عنهم , ولا هو فوقهم ولا تحتهم ولا خلفهم ولا أمامهم ، ولا عن أيمانهم ولا عن شمالهم !! وتجاوز بآخرين حتى قالوا : هو في كل مكان بذاته , كالهواء الذي هو داخل في كل مكان .
الوسطية في إثبات صفة الكلام لله رب العالمين :
وقصّر بقوم حتى قالوا : لم يتكلم الرب سبحانه بكلمة واحدة ألبتة !
وتجاوز بآخرين حتى قالوا : لم يزل أزلا وأبدا قائلا : ( يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) , ويقول لموسى ( اذهب إلى فرعون ) فلا يزال هذا الخطاب قائما به ، ومسموعا منه , كقيام صفة الحياة به !
الوسطية في إثبات الشفاعة :
وقصّر بقوم حتى قالوا : إن الله سبحانه لا يشفّع أحدا في أحد ألبتة , ولا يرحم أحدا بشفاعة أحد !
وتجاوز بآخرين حتى زعموا أن المخلوق يشفع عنده بغير إذنه , كما يشفع ذو الجاه عند الملوك ونحوهم !
الوسطية في الإيمان وأهله :
وقصّر بقوم حتى قالوا : إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل , فضلا عن أبي بكر وعمر !
وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة !
الوسطية في أسماء الله تعالى وصفاته :
وقصّر بقوم حتى نفوا حقائق أسماء الرب تعالى وصفاته ، وعطّلوه منها !
وتجاوز بآخرين حتى شبهوه بخلقه ومثّلوه بهم !
الوسطية في أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وقصّر بقوم حتى عادوا أهل بيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم , وقاتلوهم , واستحلوا حرمتهم !
وتجاوز بقوم حتى ادّعوا فيهم خصائص النبوة : من العصمة وغيرها . وربما ادعوا فيهم الإلهية !!
الوسطية في عيسى ابن مريم عبدالله ورسوله عليه السلام :
وكذلك قصّر باليهود في المسيح عليه والصلاة والسلام حتى كذبوه ، ورموه وأمه بما برأهم الله تعالى منه !!
وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله !! وجعلوه إلها يعبد مع الله ..." .
إلى آخر كلامه رحمه الله .
واستعراض ما سبق من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله ، يتبين لنا وسطية هذا الدين الحنيف ، وأنه دين الفطرة المستقيمة , ودين اليسر ورفع الحرج والضيق , ودين العدل والاستقامة , ودين الحكمة المعقولة التي لا تتعارض مع المعقول الصريح .
وهكذا كانت وسطية أهل السنة والجماعة ، المتبعين لسلف الأمة ، من الصحابة رضوان الله عليهم ، والتابعين لهم بإحسان .
وهذه أيضا كلها ميزات لهذا الدين العظيم ، ترغّب الناس للدخول فيه , والانضواء تحت تعاليمه , ويمكن أن تكون لنا مرتكزات لدعوة غير المسلمين للإسلام , والله الموفق لا إله غيره ، ولا رب سواه .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .